فصل: تفسير الآيات (49- 52):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارك التنزيل وحقائق التأويل بـ «تفسير النسفي» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (49- 52):

{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52)}
{قُلْ يا أَيُّهَا الناس إِنَّمَا أَنَاْ لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} وإنما لم يقل بشير ونذير لذكر الفريقين بعده لأن الحديث مسوق إلى المشركين و{يا أيها الناس} نداء لهم وهم الذين قيل فيهم {أفلم يسيروا} ووصفوا بالاستعجال. وإنما أقحم المؤمنون وثوابهم ليغاظوا، أو تقديره نذير مبين وبشير فبشر أولاً فقال: {فالذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ} لذنوبهم {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} أي حسن. ثم أنذر فقال: {والذين سَعَوْاْ} سعى في أمر فلان إذا أفسده بسعيه {في ءاياتنا} أي القرآن {معاجزين} حال {معجزين} حيث كان: مكي وأبو عمرو. وعاجزه سابقه كأن كل واحد منهما في طلب إعجاز الآخر عن اللحاق به فإذا سبقه قيل أعجزه وعجزه. والمعنى سعوا في معناها بالفساد من الطعن فيها حيث سموها سحراً وشعراً وأساطير مسابقين في زعمهم وتقديرهم طامعين أن كيدهم للإسلام يتم لها {أولئك أصحاب الجحيم} أي النار الموقدة.
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ} {من} لابتداء الغاية {مِن رَّسُولٍ} {من} زائدة لتأكيد النفي {وَلاَ نَبِيّ} هذا دليل بين على ثبوت التغاير بين الرسول والنبي بخلاف ما يقول البعض إنهما واحد. وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الأنبياء فقال: «مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً» فقيل: فكم الرسل منهم؟ فقال: «ثلثمائة وثلاثة عشر» والفرق بينهما أن الرسول من جمع إلى المعجزة الكتاب المنزل عليه، والنبي من لم ينزل عليه كتاب وإنما أمر أن يدعو إلى شريعة من قبله. وقيل: الرسول واضع شرع والنبي حافظ شرع غيره {إِلاَّ إِذَا تمنى} قرأ، قال:
تمنى كتاب الله أول ليلة ** تمنى داود الزبور على رسل

{أَلْقَى الشيطان في أُمْنِيَّتِهِ} تلاوته. قالوا: إنه عليه السلام كان في نادي قومه يقرأ (والنجم) فلما بلغ قوله {ومناة الثلاثة الأخرى} [النجم: 20] جرى على لسانه: «تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى» ولم يفطن له حتى أدركته العصمة فتنبه عليه. وقيل: نبهه جبريل عليه السلام فأخبرهم أن ذلك كان من الشيطان. وهذا القول غير مرضي لأنه لا يخلوا إما أن يتكلم النبي عليه السلام بها عمداً وإنه لا يجوز لأنه كفر ولأنه بعث طاعناً للأصنام لا مادحاً لها، أو أجرى الشيطان ذلك على لسان النبي عليه السلام جبراً بحيث لا يقدر على الامتناع منه وهو ممتنع لأن الشيطان لا يقدر على ذلك في حق غيره لقوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سلطان} [الإسراء: 65] ففي حقه أولى، أو جرى ذلك على لسانه سهواً وغفلة وهو مردود أيضاً لأنه لا يجوز مثل هذه الغفلة عليه في حال تبليغ الوحي ولو جاز ذلك لبطل الاعتماد على قوله، ولأنه تعالى قال في صفة المنزل عليه: {لاَّ يَأْتِيهِ الباطل مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت: 42] وقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لحافظون} [الحجر: 9] فلما بطلت هذه الوجوه لم يبق إلا وجه واحدٍ وهو أنه عليه السلام سكت عند قوله {ومناة الثالثة الأخرى} فتكلم الشيطان بهذه الكلمات متصلاً بقراءة النبي صلى الله عليه وسلم فوقع عند بعضهم أنه عليه السلام هو الذي تكلم بها، فيكون هذا إلقاء في قراءة النبي عليه السلام وكان الشيطان يتكلم في زمن النبي عليه السلام ويسمع كلامه، فقد رُوي أنه نادى يوم أحد ألا إن محمداً قد قتل وقال يوم بدر: {لاَ غَالِبَ لَكُمُ اليوم مِنَ الناس وَإِنّي جَارٌ لَّكُمْ} [الأنفال: 48]
{فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِي الشيطان} أي يذهب به ويبطله ويخبر أنه من الشيطان {ثُمَّ يُحْكِمُ الله ءاياته} أي يثبتها ويحفظها من لحوق الزيادة من الشيطان {والله عَلِيمٌ} بما أوحى إلى نبيه وبقصد الشيطان {حَكِيمٌ} لا يدعه حتى يكشفه ويزيله. ثم ذكر أن ذلك ليفتن الله تعالى به قوماً بقوله.

.تفسير الآيات (53- 57):

{لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54) وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (57)}
{لّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشيطان فِتْنَةً} محنة وابتلاء {لّلَّذِينَ في قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} شك ونفاق {والقاسية قُلُوبُهُمْ} هم المشركون المكذبون فيزدادوا به شكاً وظلمة {وَإِنَّ الظالمين} أي المنافقين والمشركين وأصله و(إنهم) فوضع الظاهر موضع الضمير قضاء عليهم بالظلم {لَفِي شِقَاقٍ} خلاف {بَعِيدٍ} عن الحق.
{وَلِيَعْلَمَ الذين أُوتُواْ العلم} بالله وبدينه وبالآيات {أَنَّهُ} أي القرآن {الحق مِن رَّبّكَ فَيُؤْمِنُواْ بِهِ} بالقرآن {فَتُخْبِتَ} فتطمئن {لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الله لَهَادِ الذين ءامَنُواْ إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ} فيتأولون ما يتشابه في الدين بالتأويلات الصحيحة ويطلبون لما أشكل منه المحمل الذي تقتضيه الأصول المحكمة حتى لا تلحقهم حيرة ولا تعتريهم شبهة {وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ في مِرْيَةٍ} شك {مِنْهُ} من القرآن أو من الصراط المستقيم {حتى تَأْتِيَهُمُ الساعة بَغْتَةً} فجأة {أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} يعني يوم بدر فهو عقيم عن أن يكون للكافرين فيه فرج أو راحة كالريح العقيم لا تأتي بخير. أو شديد لا رحمة فيه أو لا مثل له في عظم أمره لقتال الملائكة فيه. وعن الضحاك أنه يوم القيامة وأن المراد بالساعة مقدماته.
{الملك يَوْمَئِذٍ} أي يوم القيامة والتنوين عوض عن الجملة أي يوم يؤمنون أو يوم تزول مريتهم {لِلَّهِ} فلا منازع له فيه {يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} أي يقضي. ثم بين حكمه فيهم بقوله {فالذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات في جنات النعيم والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بئاياتنا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} ثم خص قوماً من الفريق الأول بفضيلة فقال:

.تفسير الآيات (58- 60):

{وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59) ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60)}
{والذين هَاجَرُواْ في سَبِيلِ الله} خرجوا من أوطانهم مجاهدين {ثُمَّ قُتِلُواْ} شامي {أَوْ مَاتُواْ} حتف أنفهم {لَيَرْزُقَنَّهُمُ الله رِزْقاً حَسَناً} قيل: الرزق الحسن الذي لا ينقطع أبداً {وَإِنَّ الله لَهُوَ خَيْرُ الرازقين} لأنه المخترع للخلق بلا مثال، المتكفل للرزق بلا ملال {لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُّدْخَلاً} بفتح الميم مدني والمراد الجنة {يَرْضَوْنَهُ} لأن فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين {وَإِنَّ الله لَعَلِيمٌ} بأحوال من قضى نحبه مجاهداً، وآمال من مات وهو ينتظر معاهداً {حَلِيمٌ} بإمهال من قاتلهم معانداً. رُوي أن طوائف من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: يا نبي الله: هؤلاء الذين قتلوا قد علمنا ما أعطاهم الله من الخير ونحن نجاهد معك كما جاهدوا فما لنا إن متنا معك؟ فأنزل الله هاتين الآيتين.
{ذلك} أي الأمر ذلك وما بعده مستأنف {وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ} سمي الابتداء بالجزاء عقوبة لملابسته له من حيث إنه سبب وذلك مسبب عنه {ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ الله} أي من جازى بمثل ما فعل به من الظلم ثم ظلم بعد ذلك فحق على الله أن ينصره {إِنَّ الله لَعَفُوٌّ} يمحو آثار الذنوب {غَفُورٌ} يستر أنواع العيوب. وتقرير الوصفين بسياق الآية أن المعاقب مبعوث من عند الله على العفو وترك العقوبة بقوله {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله} [الشورى: 40] {وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ للتقوى} [البقرة: 237] فحيث لم يؤثر ذلك وانتصر فهو تارك للأفضل وهو ضامن لنصره في الكرة الثانية إذا ترك العفو وانتقم من الباغي، وعرف مع ذلك بما كان أولى به من العفو بذكر هاتين الصفتين، أو دل بذكر العفو والمغفرة على أنه قادر على العقوبة إذ لا يوصف بالعفو إلا القادر على ضده كما قيل (العفو عند القدرة).

.تفسير الآيات (61- 63):

{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63)}
{ذلك بِأَنَّ الله يُولِجُ اليل في النهار وَيُولِجُ النهار في اليل وَأَنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ} أي ذلك النصر للمظلوم بسبب أنه قادر على ما يشاء، ومن آيات قدرته أنه يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل أي يزيد من هذا في ذلك ومن ذلك في هذا، أو بسبب أنه خالق الليل والنهار ومصرفهما فلا يخفى عليه ما يجري فيهما على أيدي عباده من الخير والشر والبغي والإنصاف، وأنه سميع لما يقولون ولا يشغله سمع عن سمع وإن اختلفت في النهار الأصوات بفنون اللغات، بصير بما يفعلون ولا يستر عنه شيء بشيء في الليالي وإن توالت الظلمات. {ذلك بِأَنَّ الله هُوَ الحق وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ} عراقي غير أبي بكر {مِن دُونِهِ هُوَ الباطل وَأَنَّ الله هُوَ العلي الكبير} أي ذلك الوصف بخلقه الليل والنهار وإحاطته بما يجري فيهما وإدراكه قولهم وفعلهم بسبب أن الله الحق الثابت إلاهيته وأن كل ما يدعى إلهاً دونه باطل الدعوة وأنه لا شيء أعلى منه شأناً وأكبر سلطاناً.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السماء مَاء} مطراً {فَتُصْبِحُ الأرض مُخْضَرَّةً} بالنبات بعدما كانت مسودة يابسة وإنما صرف إلى لفظ المضارع ولم يقل فأصبحت ليفيد بقاء أثر المطر زمان بعد زمان كما تقول (أنعم عليّ فلان فأروح وأغدوا شاكراً له) ولو قلت (فرحت وغدوت) لم يقع ذلك الموقع. وإنما رفع {فتصبح} ولم ينصب جواباً للاستفهام لأنه لو نصب لبطل الغرض، وهذا لأن معناه إثبات الاخضرار فينقلب بالنصب إلى نفي الاخضرار كما تقول لصاحبك (ألم تراني أنعمت عليك فتشكر)، إن نصبته نفيت شكره وشكوت من تفريطه فيه، وإن رفعته أثبت شكره {إِنَّ الله لَطِيفٌ} واصل عمله أو فضله إلى كل شيء {خَبِيرٌ} بمصالح الخلق ومنافعهم أو اللطيف المختص بدقيق التدبير والخبير المحيط بكل قليل وكثير.

.تفسير الآيات (64- 67):

{لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65) وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ (66) لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67)}
{لَّهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض} مُلكاً وملكاً {وَإِنَّ الله لَهُوَ الغني} المستغني بكمال قدرته بعد فناء ما في السماوات وما في الأَرض {الحميد} المحمود بنعمته قبل ثناء من في السماوات ومن في الأرض {الم * تَرَى أَنَّ الله سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الأرض} من البهائم مذللة للركوب في البر {والفلك تَجْرِى في البحر بِأَمْرِهِ} أي ومن المراكب جارية في البحر، ونصب {الفلك} عطفاً على (ما) و{تجري} حال لها أي وسخر لكم الفلك في حال جريها {وَيُمْسِكُ السماء أَن تَقَعَ عَلَى الأرض} أي يحفظها من أن تقع {إِلاَّ بِإِذْنِهِ} بأمره أو بمشيئته {إِنَّ الله بالناس لَرَؤُوفٌ} بتسخير ما في الأرض {رَّحِيمٌ} بإمساك السماء لئلا تقع على الأرض، عدد آلائه مقرونة بأسمائه ليشكروه على آلائه ويذكروه بأسمائه. وعن أبي حنيفة رحمه الله أن اسم الله الأعظم في الآيات الثمانية يستجاب لقرائتها ألبتة.
{وَهُوَ الذي أَحْيَاكُمْ} في أرحام أمهاتكم {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} عند انقضاء آجالكم {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} لإيصال جزائكم {إِنَّ الإنسان لَكَفُورٌ} لجحود لما أفاض عليه من ضروب النعم ودفع عنه من صنوف النقم، أو لا يعرف نعمة الإنشاء المبدئ للوجود ولا الإفناء المقرب إلى الموعود ولا الإحياء الموصل إلى المقصود {لِكُلّ أُمَّةٍ} أهل دين {جَعَلْنَا مَنسَكًا} مر بيانه وهو رد لقول من يقول إن الذبح ليس بشريعة الله إذ هو شريعة كل أمة {هُمْ نَاسِكُوهُ} عاملون به {فَلاَ ينازعنك} فلا يجادلنك والمعنى فلا تلتفت إلى قولهم ولا تمكنهم من أن ينازعوك {فِى الأمر} أمر الذبائح أو الدين. نزلت حين قال المشركون للمسلمين: ما لكم تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتله الله يعني الميتة {وادع} الناس {إلى رَبّكَ} إلى عبادة ربك {إِنَّكَ لعلى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ} طريق قويم. ولم يذكر الواو في {لِكُلّ أُمَّةٍ} بخلاف ما تقدم لأن تلك وقعت مع ما يناسبها من الآي الواردة في أمر النسائك فعطفت على أخواتها، وهذه وقعت مع أباعد عن معناها فلم تجد معطفا.

.تفسير الآيات (68- 72):

{وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72)}
{وَإِن جادلوك} مراء وتعنتاً كما يفعله السفهاء بعد اجتهادك أن لا يكون بينك وبينهم تنازع وجدال {فَقُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} أي فلا تجادلهم وادفعهم بهذا القول، والمعنى أن الله أعلم بأعمالكم وما تستحقون عليها من الجزاء فهو مجازيكم به، وهذا وعيد وإنذار ولكن برفق ولين وتأديب يجاب به كل متعنت {الله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} هذا خطاب من الله للمؤمنين والكافرين أي يفصل بينكم بالثواب والعقاب، ومسلاة لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما كان يلقى منهم.
{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا في السماء والأرض} أي كيف يخفى عليه ما تعملون ومعلوم عند العلماء بالله أنه يعلم كل ما يحدث في السماوات والأرض {إِنَّ ذلك} الموجود فيهما {فِى كتاب} في اللوح المحفوظ {إِنَّ ذلك عَلَى الله يَسِيرٌ} أي علمه بجميع ذلك عليه يسير. ثم أشار إلى جهالة الكفار لعبادتهم غير المستحق لها بقوله {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ} {ينْزل} مكي وبصري {سلطانا} حجة وبرهاناً {وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ} أي لم يتمسكوا في عبادتهم لها ببرهان سماوي من جهة الوحي ولا حملهم عليها دليل عقلي {وَمَا للظالمين مِن نَّصِيرٍ} وما للذين ارتكبوا مثل هذا الظلم من أحد ينصرهم ويصوب مذهبهم {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا بَيّنَاتٍ} يعني القرآن {تَعْرِفُ في وُجُوهِ الذين كَفَرُواْ المنكر} الإنكار بالعبوس والكراهة والمنكر مصدر {يكادون يَسْطُونَ} يبطشون والسطو الوثب والبطش {بالذين يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ ءاياتنا} هم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه {قُلْ أَفَأُنَبّئُكُم بِشَرّ مّن ذلكم} من غيظكم على التالين وسطوكم عليهم أو مما أصابكم من الكراهة والضجر بسبب ما تلي عليكم {النار} خبر مبتدأ محذوف كأن قائلاً قال: ما هو؟ فقيل: النار أي هو النار {وَعَدَهَا الله الذين كَفَرُواْ} استئناف كلام {وَبِئْسَ المصير} النار.
ولما كانت دعواهم بأن لله تعالى شريكاً جارية في الغرابة والشهرة مجرى الأمثال المسيرة قال الله تعالى:

.تفسير الآيات (73- 74):

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)}
{يأَيُّهَا الناس ضُرِبَ} بين {مَثَلٌ فاستمعوا لَهُ} لضرب هذا المثل {أَنَّ الذين تَدْعُونَ} {يَدَّعُونَ} سهل ويعقوب {مِن دُونِ الله} آلهة باطلة {لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً} (لن) تأكيد نفي المستقبل وتأكيده هنا للدلالة على أن خلق الذباب منهم مستحيل كأنه قال: محال أن يخلقوا. وتخصيص الذباب لمهانته وضعفه واستقذاره، وسمي ذباباً لأنه كلما ذب لاستقذاره آب لاستكباره {وَلَوِ اجتمعوا لَهُ} لخلق الذباب ومحله النصب على الحال كأنه قيل: مستحيل منهم أن يخلقوا الذباب مشروطاً عليهم اجتماعهم جميعاً لخلقه وتعاونهم عليه، وهذا من أبلغ ما أنزل في تجهيل قريش حيث وصفوا بالإلالهية التي تقتضي الاقتدار على المقدورات كلها والإحاطة بالمعلومات عن آخرها صوراً وتماثيل يستحيل منها أن تقدر على أقل ما خلقه الله تعالى وأذله لو اجتمعوا لذلك {وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذباب شَيْئاً} {شَيْئاً} ثاني مفعولي {يَسْلُبْهُمُ} {لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ} أي هذا الخلق الأقل الأذل لو اختطف منهم شيئاً فاجتمعوا على أن يستخلصوه منه لم يقدروا. عن ابن عباس رضي الله عنهما أنهم كانوا يطلونها بالزعفران ورؤوسها بالعسل فإذا سلبه الذباب عجز الأصنام عن أخذه {ضَعُفَ الطالب} أي الصنم بطلب ما سلب منه {والمطلوب} الذباب بما سلب وهذا كالتسوية بينهم وبين الذباب في الضعف، ولو حققت وجدت الطالب أضعف وأضعف فإن الذباب حيوان وهو جماد وهو غالب وذاك مغلوب {مَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ} ما عرفوه حق معرفته حيث جعلوا هذا الصنم الضعيف شريكاً له {إِنَّ الله لْقَوِيٌ عَزِيزٌ} أي إن الله قادر وغالب فكيف يتخذ العاجز المغلوب شبيهاً به، أو لقوي بنصر أوليائه عزيز ينتقم من أعدائه.